- اسم الكاتب: الدكتور إبراهيم المطرودي
- الصحيفة: جريدة الرياض
- تاريخ النشر: الدكتور إبراهيم المطرودي
- رابط المقالة
من المحزن أن يمضي الرعيل الأول من إداريينا دون أن يتركوا بعدهم أثراً مكتوباً، وصحائف سيرة مخطوطة، تحفظ مآثرهم، وتُبقي ذكرهم، وتُوجز لهم ما شغلهم وأهمّهم، فلا يذكر المرء، وهو يجتال في ذاكرته، إلا كتابين: أولهما ما كُتبت هذه المقالة له..لو سُئلتُ عن أهم عنصر في الدول والمجتمعات؛ لقلتُ ولا أُراجع نفسي في قولي: إنهم الإداريون، فهم وجه البلد، وهم المسؤولون الأولون عنه، إليهم بعد الله تعالى يُنسب الخير، ويُعْزى الفلاح، وكل بلد مرهونٌ قدرُه بإدارييه، إن أحسنوا حسُن، وإن أساؤوا ساء، فهم أكثر الناس أثرا عليه، وأعظمهم صدى فيه، إنْ ثابروا وجدّوا: وما طالبُ الحاجاتِ من كلّ وجهةٍ .. مِن الناس إلا مَن أَجَدّ وشَمّرا، جمعوا بين عظيمتين: الأولى: حلّ التحديات الراهنة، والثانية: تفادي وقوع مثلها في المستقبل، يُثقل كواهلهم ما هو كائن، وما سيكون إن شاء الله، ويُعدّون العدّة لمواجهة الحاضر، وما يُتوقع في القريب العاجل، وهم بهذه الصفة لا يختلفون عن غيرهم من الناس، الذين يشغلهم الواقع بما فيه، ويجتذبهم الآتي بما يحويه، غير أنّهم تندبهم مصالح الأمة إلى ذلك، وتدعوهم مآرب الجماهير إليه، فهم إن اتفقوا مع الناس في البداية، يختلفون عنهم في الغاية، والغاية محلّ العناية، وهي مناط التفريق بين البشر، والحاكم الحاسم في التفاضل بينهم. في البشر شوق إلى معرفة هموم الآخرين وأخبارهم، وهو توق له أسبابه ودواعيه، يطلب الخلق أخبار الشعراء، ويسعون وراء أنباء الأدباء، ويجرون خلف أحوال المشاهير والعظماء، مرةً يُحرّكهم حبّ الاطلاع، وتارة تدفع بهم محبة الاستطلاع، وما لمثلي أن يلومهم في تَدَاعيهم إلى ما يحبون، ويعجب من تناديهم إلى ما يُؤثرون، وإنْ كنتُ قد أرى همّا أحسنَ من همّ، وهدفا أزكى من هدف! الإداري، ونموذجه هذه المرة الأمير ابن عيّاف، لم تنل همومه الإدارية ما تستحقه، ولم تحظَ بما هي أهله، مع ما تقدّم من أنها هموم الأمة وآمالها، يُقبل الجمهور على لغة الشعر، ويتقاطرون إلى فن القصة، وتستهويهم الحوارات الفكرية النظرية، وربّما سافروا مئات الأميال حتى يشاهدوا عمارة قديمة وأبنية عتيقة، بيد أنهم حين يرون كتاب الأمير ابن عيّاف (الإدارة المحلية والقطاع البلدي، التحديات والفرص الضائعة) تضعف روح الاطلاع عندهم، وتتراجع همته فيهم، والأمور لو كانت تُقاس بالمنطق والنفع، ويُنظر إليها بالعقل والمصلحة، لكان هذا الكتاب، وما اشتمل عليه من حكاية للآمال والعقبات، من أجدر الكتب أن يُطّلع عليها، ويُفاد بما فيها، فتُعقد له جلسات النقاش، ويجتمع له الجمهور، ويُندب مؤلفه للحديث عنه حتى تسمع منه الأمة ما المنجزات التي قدّمتها أمانة الرياض؟ وما العقبات التي وأدت أحلام رجالها وإن كانوا كما قال السموأل:
وقدْ يُدركُ الأمرَ غيرُ الأريبِ.... وقد يُصرَعُ الْحُوّلُ القُلّبُ
ولكن لها آمرٌ قادرُ.... إذا حاولَ الأمرَ لا يُغلبُ؟
تأليف هذا الكتاب بادرة ثمينة، يُشكر عليها مؤلفه، ويُحمد له فيه تقدّمه، ويفتح باب التأليف لكل الإداريين، الذين كان لهم مثل عمله، وأقصد بهم كبار الإداريين، حتى يعرضوا سبل الإصلاح التي يرونها، ويُمدوا غيرهم بقطاف تجاربهم، ويحكوا لهم طرفا من معاناتهم، فيكون لغيرهم بعدهم تجارب مكتوبة، يرجعونها إليها، وينتفعون بما فيها، ويجتمع بهذه الجهود بعد ذلك مكتبة إدارية، تتحدث عن واقعنا وتُعنى به وتُقدّم حلولها لما فيه، فتكون قِبلة الباحثين في الميدان الإداري، ونُجعة المنتجعين في قضاياه، ومن المحزن أن يمضي الرعيل الأول من إداريينا دون أن يتركوا بعدهم أثرا مكتوبا، وصحائف سيرة مخطوطة، تحفظ مآثرهم، وتُبقي ذكرهم، وتُوجز لهم ما شغلهم وأهمّهم، فلا يذكر المرء، وهو يجتال في ذاكرته، إلا كتابين: أولهما ما كُتبت هذه المقالة له، وثانيهم ما تركه لنا الأستاذ غازي القصيبي، وهو قدْر يسير، إذا ما قيس بعمر هذه الدولة المباركة، ولعل هذه الندرة تُفسّر ما سلف، من قلة عناية الناس بمثل هذه المؤلفات، فأهل الشأن والحريصون عليه والقائمون به، إذا لم يُعطوه حقه ويَفوه نصيبه، فلا يُلام غيرهم على ما بَدَرَ منهم تجاهه، ولا يُستغرب من حالهم بعد الوقوف على حال أهله وذويه معه.
” الأثر يدل على المسير” والإدارة تدل على المدير، وحسبي من كتاب الأمير، وكلُّ قضاياه بالذكر جدير، أن أُشْرككم معي في حديثه عن (توسع مدينة الرياض) الجغرافي، وكثرة الهجرة البشرية إليها، فكان عدد سكانها قبل تسعين عاما تقريبا خمسة وثلاثين ألفا، واليوم تجاوز أهلها سبعة ملايين، وهو توسع لم يكن لأمانتها، والحديث هنا للأمير، رأي في القرارات الرئيسة المؤثرة فيه، فكان على الأمانة أن تُعالج ما ينبني على قرارات غيرها، وتدفع ضريبة أمور لم تُستشر فيها! فكان حالها معها كحال المهلب بن أبي صفرة، حين بعث إليه الحجاج يستعجله في حرب الأزارقة، فما كان منه إلا أنْ قال قولته المأثورة: “إنّ من البليّة أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يُبصره” (العقد الفريد 1/ 114)