- اسم الكاتب: الدكتور أحمد المعتوق
- الصحيفة: جريدة الجزيرة
- تاريخ النشر: الجمعة والسبت 30/6-1/7/1442هـ 12-13/2/2021م
- رابط المقالة
يتحدث مؤلف هذا الكتاب عن تجربته في إدارة أمانة منطقة الرياض، ويعرض من خلالها نموذجًا لإدارة المدن وتدبير شؤونها البلدية، ويجمع فيه بين الرؤية العلمية الحديثة ومقاييس الذوق الفني والخبرة الشخصية والرغبة الصادقة في النهوض العمراني والتوجه الحضاري الذي يمزج بين الأصالة والمعاصرة.
وأنا هنا لست من المتخصصين في علم الإدارة لأتحدث عن موضوع هذا الكتاب بصفة الناقد الخبير، وإنما بدا لي أن أدلي بدلوي في الموضوع رغبة مني في التشجيع على الاقتداء بالمؤلف في سعيه الموفق إلى طرح ما يمكن أن يساعد على مواصلة التطوير في المجال الذي عمل فيه. ولا شك في أننا نتطلع إلى أن تشهد مملكتنا الحبيبة مزيدًا من نشاط الفكر الإداري المتحضر في مختلف القطاعات، ولاسيما فيما يتعلق بالتخطيط العمراني وتخطيط المدن وتنظيم الشؤون البلدية العامة فيها، واستغلال التقنيات والنظريات الحديثة المتقدمة على اختلافها في تعمير الطرق، وتطوير وسائل النقل وآلياته، والمرافق الحيوية بمختلف أشكالها، وكل ما يجعل بلادنا في مصاف الدول الكبرى المتقدمة في نهضتها العمرانية والفكرية والحضارية على حد سواء، خاصة أن الدولة – رعاها الله – كانت – ولا تزال – تقدّم مختلف أشكال الدعم من أجل الوصول إلى هذه الأهداف؛ فلا يبقى سوى حرص المعنيين في كل قطاع وظيفي أو مهني في الدولة على تطوير أنفسهم فكريًّا ومهنيًّا بما يوازي هذا الدعم السخي.
الإدارة – كما يعرِّفها الكثيرون – علم خالص، له مكانته السامية بين العلوم الحديثة، وهي كذلك فن صريح رفيع، له منزلته التي لا تقل – كما أظن – عن مكانته كعلم. والإدارة فن لأنها ترتكز في أداء كثير من مهامها أو أعمالها، إضافة إلى المعارف النظرية أو العقلية، على مهارات خاصة، مصدرها الموهبة. وبناء على ما سبق ذكره فإن البراعة أو النجاح في العمل الإداري لا يعتمد على المعرفة العلمية فحسب، وإنما لا بد من وجود المهارة الفنية أيضًا. وإدارة المدن التي تعتبر أحد الفروع المهمة في علم الإدارة ربما تكون أكثر حاجة إلى المهارات الفنية والمواهب سابقة الذكر؛ لما يجب أن يراعى فيها من جوانب التذوق الجمالي للمحيط البيئي، وما يتناسب معه من أشكال العمران والبناء، ومن الملاءمة بين متطلبات الحداثة وفروض الحفاظ على الهوية الحضارية.. بل حتى المدن الذكية التي يعتمد في بنائها أو في إدارة شؤونها على استغلال التقنيات الرقمية والآليات الحديثة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية لا يُستغنى فيها عن اللمسات الحميمة التي يحكمها الذوق الجمالي الفني لدى رعاتها والقائمين على إدارة شؤونها.
إنّ مؤلف الكتاب – كما تشير مقدمته – أخذ علم الإدارة من أحسن موارده، وفي أرقى مستوياته؛ فجامعة بنسلفانيا – فيلادلفيا تعد من أرقى الجامعات في هذا المجال.
وقد امتلك المؤلف – بحسب ما تمليه سيرته وملامح شخصيته التي عرفها الكثيرون – مهارات لازمة في العمل الإداري. فالفطنة والفراسة، وسداد الرأي، وبعد النظر، وحسن التدبير والتخطيط، ومهارة التحدث والتحاور، والقدرة على الإقناع، وملامح الشخصية القيادية وسماتها، هذه كلها من الملكات الأساسية التي يحتاج إليها في الإدارة بوصفها فنًّا رفيعًا، والمؤلف حازها كما نعتقد.
لقد مارس مؤلف الكتاب عمله أو تخصصه أمينًا لمدينة الرياض، ثم أمينًا لمنطقة الرياض بأكملها مدة خمسة عشر عامًا. وهذا العمل الميداني الممتد من شأنه أن يصقل قريحة صاحبه، ويرتقي بمعارفه ومهاراته إلى مستوى رفيع، ويجعل من تجربته واسعة ثرية، ولاسيما أن عمله الميداني جعله على سعته وامتداده قريبًا من موارد الدعم المادي والمعنوي، ومن مصادر الإثراء الفكري أيضًا. هذا مضاف إلى أن مركز العمل ومحوره الرئيس هو الرياض، العاصمة السياسية للبلاد، والمدينة التي تشرئب إليها الأعناق، وتحرسها وترعاها عيون الدولة العتيدة بمختلف أجهزتها.
بهذه المحصلات وحدها، وقبل أن نطلع على فصول الكتاب المذكور، ونقرأ تفاصيله، أو ننظر إلى ما مارسه مؤلفه من وظائف أكاديمية، أو تولاه من مناصب إدارية، يمكننا القول، وبكل اطمئنان، إننا في هذا الكتاب أمام تجربة خصبة في مجال إدارة المدن، وعلوم الإدارة بنحو عام. أما القارئ المتخصص المتطلع إلى تجربة مماثلة في الإدارة المدنية فإنه سيجد في مؤلفه – كما نعتقد – النموذج الأمثل في موضوعه ومحيطه؛ إذ لم يسبق لأحد في هذا المنصب وفي هذا المحيط – على حد علمي – أن قام بالكتابة عن تجربة له مماثلة على النحو الذي قام به.
قمتُ بإجراء مسح سريع بصفتي مراقبًا غير متخصص في الموضوع؛ فعثرتُ على عدد من المقالات أو البحوث الصادرة عن شبكة التخطيط العمراني أو الحضري بالمملكة حول إدارة المدن عامة. كما عثرت على ما كتبه أيمن الشيخ عن الإدارة الحديثة واستراتيجيات المدن. ولا شك في أن هناك مقالات وأبحاثًا أخرى مماثلة، لا يتسع المجال هنا لذكرها. غير أنني لم أعثر على ما يشكّل دراسة أكاديمية أو ميدانية تجريبية معمقة حول الإدارة المحلية أو حول إدارة مدينة الرياض أو منطقة الرياض والقطـاع البـلدي فيها بنحو خاص. وإذا ما صح هذا الاستنتاج يكون للدكتور العياف قصب السبق في موضوعه، وتصح له الريادة في تجربته.
تصفحت الكتاب بوعي وتحسس دقيق لمحتواه؛ فخرجت بانطباع مفاده أن الكاتب كان حريصًا بالفعل على إحداث تغيير جذري في إطار المنطقة التي تقع في نطاق إدارته. وكانت آثار حماسته للتطوير ظاهرة في كل فصل من فصول كتابه، وأن أية نظرة موضوعية سريعة من قارئ متبصر منصف لفصول هذا الكتاب تكشف عما يحتويه من سعي جاد لتحدي الصعوبات التي تعترض سبل التطوير، وربما كان من أبرز التحديات التي واجهها عدم وجود هيكلة واضحة أو منهج متكامل ودقيق سابق للإدارة المحلية المتناسبة مع البيئة الجغرافية والاجتماعية والسياسية القائمة، ومحاولته الحثيثة للعمل وفق هذا المنهج الذي كان يمارسه بصورة عملية في إطار غير مؤسسي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حين كان أميرًا لمنطقة الرياض، وتعزيز الجوانب الإيجابية التي كانت مقررة، أو تصحيحها، وإضافة عناصر إيجابية جديدة لها. وهذه من الجوانب الريادية في الكتاب كما أتصور.
وربما كان من بين الجوانب الريادية في الكتاب أيضًا محاولة المؤلف في تحدي جوانب التوزيع الجغرافي أو المكاني للخدمات البلدية، وترددها بين المركزية واللامركزية، وسعيه لوضع خارطة طريق واضحة للقطاع البلدي، يتم من خلالها توزيع الخدمات البلدية في مدن المنطقة وقراها بمستوى متناسب مع معطيات العصر.
وعلى الرغم من أهمية حديث الكاتب، وسعيه لتأسيس فكر جديد للاستثمار البلدي، وتحديث أنظمة البناء، فإن الأهمية الكبيرة – كما أظن – تكمن فيما طرحه المؤلف من مقترحات متعلقة بطرق التنمية العمرانية، وإرساء أو دعم مشاريع التمويل ونزع الملكيات، وما يتعلق بذلك من طرق لتدعيم الصناديق الخاصة بها.
من المعروف في مناهج البحث العلمي أن أهمية الدراسة العلمية تكمن أحيانًا فيما تسوقه هذه الدراسة من مقترحات، أو تطرحه من أسئلة تحفز على التفكير والتبصر من أجل إيجاد حلول ناجعة، أو الوصول إلى معالجات حاسمة للقضايا أو المشاكل القائمة. وقد طرح المؤلف في كتابه العديد من المقترحات المتعلقة بتأسيس عدد من الصناديق الداعمة لمشاريع التنمية والتخطيط العمراني، القائمة منها والقادمة. وهذه المقترحات أو المبادرات – كما يعبّر المؤلف أحيانًا – حتى وإن لم تنفّذ كلها في فترة عمل صاحبها تبقى قيد التفكير والبحث وانتظار التنفيذ مستقبلاً؛ لذلك فإن أهميتها تبقى حاضرة.
وللكتاب أهميته المميزة كذلك في التأكيد على استثمار الفرص الضائعة، وعقد الشراكة في هذا الاستثمار بين القطاعات الحكومية والشركات والقطاعات الخاصة عامة؛ فهذه هي الطريقة المثلى – كما يشهد الواقع – للمشاركة في البناء السليم في المجتمعات المتحضرة؛ لأن المنفعة وفق هذه الطرق تعود على المجتمع كله، وليس على فئة معينة منه، وعامة أشكال التطور العمراني أو الحضاري لا تنعكس آثارها على جهة معينة في البلاد أو المنطقة وإنما على الجهات كلها؛ ولذلك فإن تضافر جهود القطاعات الخاصة مع جهود الدولة يبقى الأساس في مختلف عمليات التطوير والإصلاح.
وجانب آخر مما يكشف عن أهمية في الدراسة، هو الربط بين النظرية والتطبيق، أي تقريب الرؤى ووجهات النظر عن طريق ربطها بالواقع الفعلي القائم؛ فالمؤلف يربط بين ما يراه من ضرورات التجديد في مناهج التخطيط والتطوير العمراني والواقع الفعلي بإعطاء الكثير من الأمثلة على مشاريع التطوير التي قامت تحت إشراف إدارته، أو إنها في طريقها إلى التنفيذ، مثل مشاريع تلال الرياض ومخطط القصر في الحي السويدي.. ثم يوضح ما قامت عليه هذه المشاريع من أسس وثوابت في أساليب قريبة، يمتزج فيها الخطاب الفكري بالخطاب الحسي، وتتجسد النظرية بالمثال في بعد نسبي عن منهج التوصيف الخالص.
ويولي المؤلف اهتمامًا خاصًّا بما يعيق التوسع العمراني، أو يحد من عمليات التخطيط والتنمية الشاملة، فيتحدث عن المشاكل المتعلقة بملكيات الأراضي الخاصة، والمنح الحكومية، وتعارض خطط المشاريع التنموية عامة مع المصالح الفردية أو الجهوية، ساعيًا إلى إيجاد الحلول المناسبة لهذه المشاكل، وواضعًا في الاعتبار عادات المجتمع وتقاليده وطرق تفكيره، فيعرض – على سبيل المثال – بدائل للمنح الحكومية، وطرقًا سلسة أو مرنة ومهيئة لنزع الملكيات..
وربما كان من أهم الجوانب التي تضمنها الكتاب الحديث عن المبادرات المتعلقة بما سماه: «أنسنة المدن»، أو تعزيز البُعد الإنساني فيها بتحويلها من مجرد معالم وأبنية ومشيدات خرسانية صامتة إلى فضاءات حضارية حيوية باعثة على نشاط الإنسان وحركته، ومتلائمة مع هوية المجتمع ومع إرثه الثقافي، حافزة له على تعلقه ببيئته والاعتزاز بانتمائه وبهويته الإنسانية والحضارية.
ومن المعلوم أن جمال المدينة وبهاءها الحضاري ليس فقط فيما تحتويه من أبنية وصوامع وقلاع شاهقة، ومجمعات تجارية فخمة ومستشفيات حاشدة بالأجهزة، ومصانع تعج بالآلات أو بالمنتجات من كل صنف؛ لأن مدينة بمثل هذه الصفات وحدها تفقد دفئها وبريقها وروحانيتها، ويصبح الإنسان فيها كالآلة الجامدة أو الصامتة، وإنما الإنسان بفكره وإحساسه.. وهكذا تتحقق حضارة الإنسان، وتنشط حياته وتتقدم. ولهذه الاعتبارات كانت المجتمعات الواعية تنشئ في بلدانها مدنًا حافلة، تزهو بها الروح وتستريح.
مدن الإنسان المتحضر حافلة بالشوارع الفسيحة والطرق السريعة والصروح الشامخة المشيدة بكل أشكالها وأحجامها.. وعامرة كذلك بالحدائق والمتنزهات الفارهة، وأماكن الترويح والتسلية والترفيه والإمتاع الحسي والمعنوي بكل أشكاله، وبما يتناسب مع كل فئات المجتمع وطبقاته وميوله ورغباته. فتشد هذه المدن أهلها إليها، وتبعثهم على الاعتزاز بالانتماء إليها، وإلى حضارتها وهويتها، كما تجتذب إليها السياح والغرباء، وتستهويهم؛ فيزداد اعتزاز أهلها بها، وتزداد حماستهم للمشاركة في دفعها نحو مزيد من الرقي والازدهار بالجهود والأموال وغيرها.
المبادرات التي طرحها المؤلف في الفصل الأخير من كتابه، وسعى إلى تحقيقها أو تحقيق الكثير منها على أرض الواقع، وسماها «مبادرات الأنسنة»، في تحقيقها خدمة المواطن كإنسان له مشاعره ورغباته الحسية، ومطالبه الروحية بلا شك؛ لأنها تهدف بالفعل إلى تحويل معالم المدينة التي يسكنها من طبقات أسمنتية صامتة إلى معالم ناطقة، يجد فيها الإنسان نفسه وصورته، ويجد فيها من الراحة النفسية ما يشعره بأنه كغيره من البشر في الدول التي اصطلح عليها أنها دول متحضرة أو متمدنة.. وبذلك يزداد نشاطه الفكري والحسي والروحي والعملي الحياتي على حد سواء.
ساحات احتفالات الأعياد والمهرجانات التراثية والفنية والوطنية، والنوادي العلمية والثقافية، والحدائق والمتنزهات العامة، وميادين الرياضة، وحلبات السباق الواسعة، ومسارات الجري والمشي، وأماكن الترويح، ومراكز الأنس والترفيه لمختلف الأجناس، ومعاهد ودور الرعاية الخاصة، والأسواق الشعبية والحديثة التي تلبي احتياجات أفراد المجتمع على اختلاف هواياتهم وميولهم وأمزجتهم.. هذه كلها إضافة إلى كونها معالم عمرانية هي وسائل لإعمار النفوس، وتنشيط الأرواح، والتطور الحضاري الحقيقي يقضي بأن تكون العناية بها إن لم تكن سابقة للعناية بغيرها من معالم العمران الحديث فلا أقل من أن تكون مساوية لها. وهذا التوازن هو الذي يُشعر سكان المدينة أو المواطنين بنحو عام بالاكتفاء والارتواء النفسي، ويحفزهم على المشاركة الإيجابية في مختلف عمليات التطوير والبناء الحضاري، ومن بينها الاستثمار الداخلي الذي أولاه المؤلف عنايته نظريًّا وعمليًّا. ولنكون منصفين لا بد أن نقر بأنه على الرغم من المشاريع الواسعة التي تم اقتراحها أو تنفيذها في الفترة التي أدار فيها المؤلف شؤون بلدية المنطقة فهناك مشاريع عمرانية وحضارية تفرضها أهمية المنطقة وحجمها السياسي الكبير، كما تقضي بها تطلعات المؤلف وحماسته، يُرجى أن تُستكمل على الوجه المطلوب، ولا تزال الأنظار تتطلع نحو المزيد من المشاريع التي يؤمل أن تستوعب التكاثر البشري والنمو السكاني المتتابع، وغير ذلك من التطورات الإيجابية.
وأخيرًا فإن الكتاب بعيدًا عن وجاهة كاتبه أو منصبه ولقبه يقدم تجربة ناضجة قيمة في الإدارة المحلية، تتضمن نظرات حديثة ومتطورة فيما ينبغي أن يكون عليه مستوى منطقة الرياض من الناحية العمرانية والحضارية، واتخاذها فيما بعد نموذجًا مثاليًّا للمناطق السكانية الأخرى في مملكتنا الحبيبة. وأنا إذ أشيد بما قدمه المؤلف عن تجربته السابقة في إدارته لأمانة منطقة الرياض لأتطلع إلى أعمال له أخرى، تتحدث عن تجاربه ومرئياته في أعماله العلمية الحاضرة. كما آمل ذلك من أمثاله من ذوى التجارب والخبرات العلمية والعملية العالية في بلادنا الحبيبة؛ إذ إن مثل هذه الأعمال تثري المكتبة العربية بما تحتاج إليه الأجيال الحاضرة والقادمة من المهارات والخبرات العلمية والعملية النافعة البناءة، كما تعتبر امتدادًا لوجود أصحابها، وموارد إحياء لذكرهم.