العمارة السلمانية المنهج و استدامة الرؤية

تتمتَّع مدينة الرِّياض بامتداد حضاريٍّ إلى أعمق أبعاد التَّاريخ الذي لم تغب أبداً عن الحضور فيه باعتداد. وتتميَّز مدينة الرِّياض اليوم بكونها حاضرةً عمرانيَّةً عالميَّة التأثير خاصَّةً على المستويات السياسيَّة والاقتصاديَّة. وتدين المدينة عبر تاريخها بكلِّ الجميل إلى ثلاث شخصيَّات مكَّنتها من بلوغ ما وصلت إليه من رُقيٍّ حضاري جعلها أيقونةً باقيةً مدى الزَّمن، ولا يلغي ذلك أدواراً مؤثِّرة لملوكٍ وأمراء تفانوا في خدمتها وتطويرها. الشَّخصية الأولى هي الإمام تركي بن عبد الله الذي اختارها عاصمةً للدَّولة السُّعوديَّة الثَّانية لتكون عاصمةً لأوَّل مرَّةٍ في تاريخها. والشَّخصيَّة الثَّانية فهي الملك المؤسِّس عبد العزيز آل سعود الذي انطلق منها لتأسيس الكيان الكبير، وأكَّد مرجعيَّتها السِّياسيَّة والتنمويَّة. أمَّا الشَّخصيَّة الثَّالثة فهي خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي منَّ الله به على المنطقة ليتولَّى بإمارته رعايتها وتنميتها لما يزيد من نصف قرن من الزمان، ويمنحها بثقةٍ هويَّة بالغة الإتقان تمزج في توازنٍ بين الأصالة والمعاصرة. يمتدُّ عمران مدينة الرِّياض بسِماته الخاصَّة إلى جذورٍ مستمدَّةٍ من الدِّين الحنيف والعادات العريقة والاعتبار للبيئة. وقد أخرج ذلك تراثاً عمرانيَّاً فريداً معقَّد البساطة بارع التفاصيل متجانس المفردات. ولعل من أجمل الوصف لذلك التراث ما ذكره عبد الله فيلبي من إعجاب بتميُّز عمارة المسجد الجامع وقصر الحكم الذي رأى في نسبه وجماله ما يجعله مثالاً للأجمل في عمارة الجزيرة العربية. ولم يكن التراث العمراني للرِّياض في أي من مراحل تاريخها متَّسماً بالجمود فقد كان متفاعلاً في تجدُّده مستوعباً ببراعة كلَّ المتطلَّبات والمقتضيات العصريَّة. استمر عمران الرِّياض في التطوُّر، وظل محتفظاً ببهائه لمئات السنين. ويمكن اختصار مراحل عمران الرِّياض إلى ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى: المرحلة التاريخيَّة التي امتدَّت إلى آخر أيام الملك عبد العزيز -رحمه الله-. وحين استعاد الملك عبد العزيز الرِّياض عاصمة ملك آبائه وأجداده، آثر الحفاظ على هوية المدينة التقليديَّة المتطوِّرة. وقد تجلَّى ذلك في أخذ المباني التي أنشئت في عهده بزمام التراث المستوعب للجديد. ولعلَّ أبرز الأمثلة على ذلك قصر المربع الذي بُني بالطِّين، وتجاوب باستيعاب مستجدات العصر الحديثة كالكهرباء وبعض مواد البناء. والمرحلة الثَّانية: هي مرحلة الإعجاب بالعمارة العالميَّة الحديثة والرَّغبة في لحاق الرِّياض وسكَّانها بمستجدَّاتها، والتي قاد لواءها بحماسٍ مخلص ولي العهد آنذاك سمو الأمير (الملك) سعود -رحمه الله-. وقد بدأت تلك المرحلة من أواخر عهد الملك عبد العزيز حيث ظهرت بعض المباني الخرسانيَّة بما فيها القصور الجديدة في منطقة المربَّع. واستمر ذلك التوجُّه الحداثي ليبلغ أوجه في بناء قصر الناصريَّة والقصر الأحمر والمعهد الملكي الفنِّي، ومباني الوزارات وإسكان الوظفين في حي الملز. وقد انعكس ذلك التوجُّه على أنظمة البناء، وبدا وكأن العمارة التقليديَّة بعضٌ من ماضٍ يذكِّر بمرحلةٍ كان شظف العيش سائداً فيها. أمَّا المرحلة الثالثة فقد ابتدأت منذ تولِّي الأمير (الملك) سلمان بن عبد العزيز إمارة منطقة الرياض، حين بدأ في خلق نقلةٍ عمرانيَّةٍ جديدة، تأخذ بزمام توجيه التنمية وتوجيهه تدريجيَّاً إلى مسارٍ يأخذ بالأصالة والمعاصرة. وقد اتَّسمت المرحلة الأولى من عهده بالاستمرار في تيَّار الحداثة الذي كان من الصعب وقف اندفاعه بسبب الحاجة العمرانيَّة الملحَّة التي استدعتها الطَّفرة الحضاريَّة التي بدأت تشهدها المملكة منذ اكتشاف البترول وبسبب المفهوم الجديد للتطوُّر الذي ترسَّخ لدى الناس. وتدريجيَّاً بدأ سمو الأمير سلمان بتنفيذ منهجه العمراني المنطلق من الجمع بين الأصالة والمعاصرة. وأحسب أن نقطة الانطلاق كانت حينما بدأ بوضع المخطَّط الرئيس لمدينة الرِّياض عام 1388هـ (1968م) والذي تمَّ الانتهاء منه عام 1392هـ (1972م) بإشراف ومتابعة سموه الدَّقيقة، باعتبار سموِّه رئيس اللجنة العليا المشكَّلة لتقييم المخطَّط العام لمدينة الرِّياض. وقد أوصت اللجنة بتشكيل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرِّياض، وصدر قرار مجلس الوزراء رقم 717 في 28-29-5-1394هـ بالموافقة على ما ورد في مخطط دوكسيادس وتشكيل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرِّياض. تنبَّه مخطَّط دوكسيادس بالرغم ممَّا عليه من مآخذ تخطيطيَّة، للمنهج العمرانيِّ لسموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز، فأكَّد أهمية المحافظة على وسط المدينة الذي يعكس تراثاً تاريخيَّاً وثقافيَّاً غزيراً يشكِّل ثروة قيَّمة. وأوصى باعتبارها مصدراً للإلهام في تصميم المناطق الجديدة من المدينة. كما أوصى بالعمل على المحافظة على بعض أقسام المدينة وترميمها، وتحديد أكثر المباني أهميَّةً وترميمها وتطويرها وإعادة استعمالها. كما نبَّه إلى ضرورة القيام بالأبحاث والتَّجارب الخاصَّة بمواد وطرق البناء، وأكَّد تشجيع المحافظة على أسس العمارة المحليَّة ومراعاة الأنظمة التي تمكِّن من توحيد طابع المدينة بما يبرز خصوصيته. ابتدأ تطبيق ذلك المنهج العمراني في برامج ومشروعاتٍ عديدة تمكَّنت بنجاح من استلهام ثوابت التُّراث العمرانيِّ المحلي. وكان من الجميل أن يتمَّ تعريف ذلك التوجُّه بإطلاق اسمٍ يليق به. وكان ذلك سبقاً لسموِّ أمين مدينة الرِّياض الأسبق الأمير عبد العزيز بن عيَّاف الذي أطلق على ذلك التوجه مصطلح «السَّلماني» أو «السَّلمانيَّة» في تأصيلٍ مستحق. وكان سموُّه دون جدالٍ أول من أطلق ذلك المصطلح، في مقاله «عمارة وعمران الرِّياض.. الطراز السَّلماني» والذي نشر بصحيفة الجزيرة بتاريخ 9-3-1439هـ (27-11-2017م). وقد أسهب سموُّ الأمير بن عيَّاف في مقالته في التَّعريف بأسس ذلك المنهج ومسبِّبات تلك التَّسمية التي تتجاوز مجرَّد الطِّراز إلى منهجٍ عمرانيٍّ متكامل. وقد أثار سبق سموِّ الأمير بن عيَّاف إلى مصطلح السَّلمانيِّ أو السَّلمانيَّة، الذي زعم البعض ادِّعاء سبقهم إليه، حراكاً في وسط المهتمين بالعمران حيث أثار البعض محقِّين أنَّها أوسع من مجرَّد طراز، وأثار آخرون أنَّها توجُّهٌ، وأرى أنَّها أعمق من مجرَّد توجُّه فهي منهجٌ بالتأكيد. كما أثار آخرون أنَّها عمرانٌ وليست عمارةً في محاولةٍ لإعطائها شموليَّةً تتجاوز مجرَّد انعكاسها على المباني، وفي ذلك بعض الحقِّ إذا أخذنا معنى كلمة العمارة المباشر. وأرى أنَّ كلمة «عمارة» تشمل العمران بجميع جوانبه انطلاقاً من قوله تعالي في كتابه العزيز {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، أي أَذِن لكم في عِمارتها. تعدُّ كلمة سموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز، في اللقاء السَّنويِّ التَّاسع للجمعيَّة السعوديَّة لعلوم العمران بقاعة الملك عبد العزيز للمحاضرات بمركز الملك عبد العزيز التاريخي بمدينة الرِّياض في 24-11-1420هـ وثيقةً تاريخيَّةً دوَّن فيها باختصارٍ ثريٍّ ملامح تطوُّر المدينة وأسسه. وأحسب أنَّه دوَّن في تلك الكلمة مفهوم العمارة السَّلمانيَّة بقوله «نحن بحاجةٍ للمواءمة بين الماضي والحاضر.. يجب أن تكون الأصالة موجودة عندنا»، وأشار باعتدادٍ إلى مركز الملك عبد العزيز التَّاريخي كنموذجٍ «يمثِّل الفرق بين ما كان وما هو موجود». وبيَّن -حفظه الله-، أنَّ الابتعاد في المراحل الأولى للتنمية عن تحقيق هويَّةٍ أصيلة للمدينة كان بسبب أنَّ التَّعمير بدأ «بتعاونٍ مع إخوة لنا مهندسين، وأغلبهم من البلاد العربيَّة كما أعرف، ولم يكن هناك طابعٌ سعوديٌّ مميَّز في كلِّ المناطق والرِّياض منها….. لأن كلَّ الإخوة الذين جاؤوا وساعدونا واشتغلوا معنا نقلوا ما درسوه.. نقلوا بيئتهم، وهذا شيءٌ طبيعي.. لم يكن هناك اهتمامٌ للتواؤم مع البيئة». أمَّا السبب الثَّاني فكان بسبب أنَّ البلاد كانت «بحاجةٍ قصوى لأن تبدأ التَّعمير وتبدأ العمران.. لأن الوقت لا يعطينا فرصةً لوضع خططٍ مسبقة.. لو انتظرنا حتى نخطِّط لهذه تأخَّرنا عشرات السَّنين حتى نصل لما وصلنا إليه». وأوضح سموُّه أنَّ من الأسباب عدم وجود كوادر سعوديَّة مؤهَّلة، وضرب مثلاً بأنَّه في بداية عمله مسؤولاً عن منطقة الرِّياض لم يعرف مهندساً سعوديَّاً واحداً مثلاً في أمانة مدينة الرِّياض، مقارِناً ذلك بوجود «عشراتٍ أو مئاتٍ بل آلاف، والحمد لله من الرِّجال الذين يعمِّرون ويشرفون على العمران والتَّخطيط في هذه البلاد». وأوضح في الختام أنَّ مقصوده أشمل من مجرَّد عمارة المنشآت منبِّهاً إلى أهميَّة «أن يكون هناك تخطيطٌ عمرانيٌّ يخدم بلادنا ويخدم أصالتها ويؤصِّل أصالتها الموجودة فيها»، ملتفتاً إلى سموِّ الأمير الدكتور عبد العزيز بن عيَّاف أمين مدينة الرِّياض موجِّهاً بأن يتم العمل على المواءمة بين الأصالة والحداثة. لعلَّ من أهم أسس العمارة السَّلمانيَّة الاهتمام بمنبع أصالتها وهو التراث، وهو ما كان محلَّ عناية من سموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز ليتمَّ بناءً عليه توجيه التَّنمية بالامتداد إلى جذوره واستيعاب المناسب من مستجدَّات الحياة المعاصرة. وكان من ملامح ذلك الاهتمام توجيهه بالعناية بالمعالم العمرانيَّة التراثيَّة كحصن المصمك وقصر المربَّع، وقصور الملك عبد العزيز التاريخية، والمساجد التراثية. وقد تبدَّى انعكاس العمارة السَّلمانيَّة ابتداءً في مشروعي حي السَّفارات وإسكان موظِّفي وزارة الخارجيَّة، واللذين جاءا تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء عام 1395 (1975م) القاضي بنقل وزارة الخارجيَّة والبعثات الدبلوماسيَّة من جدة إلى الرياض. وكان المشروعان تحت مسؤوليَّة اللجنة التنفيذيَّة العليا التي تشرّفت برئاسة سموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز. وقد قدَّم المشروعان نموذجاً فريداً للعمارة السَّلمانيَّة تميَّز بمراعاة الظروف البيئيَّة واستلهام التراث ببراعة. جاء بعد ذلك، وتحت إشراف سموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز، مشروع أمانة مدينة الرِّياض عام 1396 (1976م) لتطوير منطقة قصر الحكم. وقد أوكل تصميم المشروع إلى المعماري الإيطالي فرانكو ألبيني الذي حاول استلهام التُّراث بشكلٍ عصري. وتمَّ بعد ذلك إعداد مخطَّطٍ آخر لتطوير المنطقة من خلال مكتب مشروع تطوير المنطقة الذي أنشئ تحت مظلَّة الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. وكان تصميم مجموعة البيئة الاستشاريَّة عام 1398 (1978م) مغرقاً في اتِّباع التُّراث إلاّ أنّه بالغ كثيراً ليصبح مغامرةً عمرانيَّة لم يكتب لها النجاح. وقد تولَّت الهيئة العليا فيما بعد الإشراف على تطوير مخطَّطٍ آخر اعتمد على تطوير المباني الحكومية كمرحلةٍ أولى، وتتبَّع أسس التراث العمراني ليعكسها في عمارةٍ سلمانيَّةٍ. ونظراً للبعد التَّاريخي الخاصِّ للمنطقة وأهمِّيتها الوطنيَّة كان تداخل سموِّ الأمير سلمان بن عبد العزيز أبعد عمقاً وأكثر تأثيراً. فقد حرص بقاء الجامع الكبير وقصر الحكم في المنطقة وعلى أهميَّة استلهام التُّراث العمرانيِّ في التصميم العمرانيِّ مبقياً السَّاحات التقليديَّة ومستحضراً الذَّاكرة التاريخيَّة في إعادة بناء أجزاء من السُّور وبعض البوابات القديمة وتطوير حيِّ الدحو. تعدَّدت البرامج والمشروعات التي أصبحت العمارة السَّلمانيَّة أهم متطلباتها. فكان مركز الملك عبد العزيز التَّاريخيِّ الذي كان نتاج منهجٍ سلمانيٍّ يعتمد تحويل الاحتفاءات إلى مشروعاتٍ وطنيِّةٍ مجدية. فجاء المركز توجيهاً لفكرة الاحتفاء بالذكرى المئويَّة لتأسيس المملكة عام 1419 (1999م) ليقدِّم منجزاً حضارياً نواته قصر الملك عبد العزيز بالمربَّع. كما كان برنامج تطوير الدِّرعية بأطره التنمويَّة المختلفة. وقد امتد أخذ العمارة السَّلمانيَّة في الاعتبار إلى العديد من مشروعات القطاع الخاص كمشروع مركز التعمير، بل تعدَّى الأمر إلى تفاعل الموطنين في مشروعاتهم الخاصة مع تلك العمارة التي كان سموه قدوةً فيها تجلَّت في عمارة قصر العوجا. تتميَّز العمارة السَّلمانيَّة بشموليَّتها، فهي لا تقتصر كما سبق الإيضاح، على المنشآت المعماريَّة فقط وإنَّما تمتدُّ إلى الإطار العمرانيِّ الأوسع، والاهتمام ببرنامج أنسنة المدينة وما تضمَّنه من مبادراتٍ سبَّاقةٍ كإنشاء شبكةٍ من ممرَّات المشاة، وتطوير العديد من السَّاحات البلديَّة وبرحات الأحياء. كما تجاوز تأثير العمارة السَّلمانيَّة إلى العديد من مدن المملكة التي أصبحت تتبع خطى نهجها نفسها. وأصبحت الكثير من المفردات التي ابتدأت في الرِّياض تحت مظلة العمارة السَّلمانيَّة متداولةً باهتمام. وأذكر هنا أنَّ سموَّ الأمير سلمان بن عبد العزيز بيَّن في أحد اجتماعات الهيئة العليا لتطوير مدينة الرِّياض بأن رئيس وزراء لبنان آنذاك السيد رفيق الحريري طلب من سموِّه الاستفادة من نجاح تجربة الرِّياض في تطوير منطقة قصر الحكم لتطوير مشروع وسط بيروت. العمارة السَّلمانيَّة نشأت لتبقى. وسيكون من أقوى أسباب استمراريَّتها احتضان وليِّ العهد الأمين، صاحب السموِّ الملكيِّ الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله -، للعمارة السَّلمانيَّة وتوجيهه بالعمل على اتِّباع أسسها في المشروعات الكبرى التي تشهدها المملكة برعاية سموِّه وفق رؤية المملكة 2030. وتحتاج العمارة السَّلمانيَّة بما تُكنُّه من فكرٍ وأسس وتاريخ إلى مزيدٍ من التوثيق والدراسات البحثيَّة من كليَّات العمارة والتَّخطيط بالمملكة، وعسى أن يكون هذا المقال خطوة بدايةٍ لكتابٍ يشملها بدراسةٍ تفيها أكثر، بعض حقها.
Scroll to Top