الفضاء الانساني المسافر

المؤكد أن النقاش حول «أنسنة المدينة» وتأثير الفضاء العمراني على السلوك الإنساني أصبح إحدى القضايا المهمة التي تهتم بها برامج الأبحاث في كثير من دول العالم ..
قبل أيام قليلة كنت في العاصمة الدنماركية «كوبنهاغن» وهي التجربة الأولى لي في هذه المدينة الصغيرة الحجم المكتظة بالتجارب العمرانية المهمة حتى إن هناك مصطلح أصبح متداولاً يسمى «المكان الكوبنهاغني» نسبة للتحولات الإنسانية المكانية الكبيرة التي قامت بها بلدية المدينة خلال العقود الأخيرة لتجعل من وسط المدينة فضاء مفتوحاً للحركة الإنسانية. زيارتي لكوبانهاغن كانت مرتبطة بمناقشتي (كممتحن خارجي) لأطروحة الدكتوراه التي قدمها الدكتور محمد المحمود لجامعة كوبانهاغن حول ثقافة المشي في مدينة الرياض وتأثيرها على تخطيط وتصميم الفضاءات العامة، ولهذا الموضوع بالذات قصة طويلة يجب أن تحكى لأنها تبين تأثير القرارات المبكرة على نجاح الفضاء العمراني في أي مدينة. الدكتور المحمود يستخدم مصطلح «الفكرة المسافرة» Travelling Concept ليصف «أنسنة المدينة» ويقصد به هنا أن هذه الفكرة كونية وتم تطبيقها في أماكن ومدن عدة ونتج عنها تجارب مختلفة كل حسب الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تتميز بها كل مدينة ويؤكد على أن هذه الفكرة المسافرة شكلت إحدى أهم التجارب العمرانية والتنموية خلال العقد الأخير على الأقل. مصطلح «أنسنة المدينة» ليس بغريب على القارئ فهو متداول في الثقافة الإعلامية لدينا منذ عام 2006م وبالتحديد عندما بدأ الأمين السابق لمدينة الرياض الدكتور عبدالعزيز بن عياف بطرح فكرته حول أنسنة الرياض بشكل منهجي وعملي لكن الفكرة طرحت قبل ذلك من قبل الأمير سلطان بن سلمان في عدة مناسبات وتم ربطها بالموروث المعماري الإنساني بشكل مباشر. الدكتور ابن عياف نقل الفكرة نقلة نوعية وربطها ببرامج الأمانة التنموية والتطويرية مما أكسبها زخماً واضحاً وجعل منها فكرة قابلة للتطبيق. موقفي الشخصي من تلك القرارات المهمة التي اتخذتها أمانة الرياض في ذلك الوقت كان موقفاً فلسفياً فأنا أرى أن التطوير والتحول العمراني يجب أن يسبقه تحول اجتماعي وثقافي أي أنه ليس من المجدي أن نقوم ببناء الحدائق والساحات ولا يستخدمها المجتمع، وقد حدث هذا في فترات سابقة، بينما يرى البعض أن تطوير البيئة العمرانية سيشجع الناس على استخدام الفضاءات العامة. الخلاف كان حول هل التغير الاجتماعي يسبق التغير العمراني أو العكس. هذا الجدل حسمه الدكتور ابن عياف من خلال نظرته البعيدة المتفهمة لطبيعة مجتمع الرياض والتحولات المحتملة التي ستحدث فيه حتماً، لذلك بدأ بتهيئة الأماكن العامة التي ستستقبل الناس في المستقبل القريب نتيجة للتحولات المحتملة في الثقافة الاجتماعية وحتى لا تكون هناك ضغوط مستقبلية على الأمانة عندما يتغير المجتمع ولا تكون المدينة جاهزة لهذا التغيير فبدأ بممرات المشي في طريق الملك عبدالله وبعد ذلك شارعي التحلية والأمير سلطان وأكثر من 60 مركزاً داخل أحياء المدينة. برنامج أنسنة المدينة من الناحية التطويرية كان يكتمل ويتطور والمجتمع في حالة تغير بطيء لكن المدينة أصبحت مستعدة للتغير الاجتماعي الكبير الذي بدأت ملامحه منذ ثلاثة أعوام تقريباً. هذه الرؤية البعيدة لأمين الرياض السابق مهمة وتؤكد أن بعض القرارات التي قد تكون غير مفهومة للبعض هي في حقيقتها قرارات إستراتيجية تبين نتائجها في المستقبل وهو ما حدث فالرياض الآن هي أكثر المدن السعودية جاهزية للتعبير عن إنسانيتها الحضرية. حقيقة إن «الفضاء الإنساني المسافر» الذي قدمه المحمود في أطروحته لفت نظري لجوانب أخرى كانت غير مفهومة بشكل واضح قبل عشرة أعوام حول التطوير العمراني في مدينة الرياض لكنها اليوم أصبحت مبررة ومقبولة. والمؤكد أن النقاش حول «أنسنة المدينة» وتأثير الفضاء العمراني على السلوك الإنساني أصبح إحدى القضايا المهمة التي تهتم بها برامج الأبحاث في كثير من دول العالم كون أن هذه الأبحاث غالباً ما تكون ثلاثية الأبعاد من الناحية الزمنية (ماضي وحاضر ومستقبل) وتحتاج فترات زمنية طويلة لإنجازها لأن رصد السلوك الإنساني وكيفية تمظهره في الفضاء العمراني العام ليس بالأمر السهل، لذلك أرى أن دراسة تجربة أنسنة مدينة الرياض وتاريخ المدينة العمراني يحتاج أكثر من رسالة دكتوراه.
Scroll to Top